هل تقترب أوروبا من تقييد حرية الصحافة؟
القاهرة: هاني كمال الدين
أصبح من الواضح في الآونة الأخيرة أن الرقابة في أوروبا تتزايد بشكل ملحوظ، حيث تفرض بروكسل ضغوطًا على منصات الإنترنت الكبرى ووسائل التواصل الاجتماعي لـ “مراقبة المنشورات” تحت ذريعة محاربة المحتوى الضار أو الذي يُعتبر تهديدًا للديمقراطية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي تكلفة حرية الصحافة في ضوء هذه التشريعات الجديدة؟
في منتصف أغسطس الماضي، أصدرت مجلة “دو رزيكزي” البولندية تحذيرًا عميقًا حول ما وصفته بالرقابة التامة على الإنترنت في الاتحاد الأوروبي. وبحسب المجلة، فإن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بولندا، يجب أن تتوقع فرض رقابة شاملة على المحتوى السياسي غير المرغوب فيه بالنسبة لبروكسل. وقد أشار التقرير إلى أن الاتحاد الأوروبي قد أقرَّ قانون “الخدمات الرقمية” (Digital Services Act)، الذي يهدف إلى محاربة المحتوى الذي يهدد القيم الديمقراطية. واعتبرت المجلة أن هذه الخطوة تعتبر بداية معركة من أجل حرية التعبير لكل مواطن في أوروبا.
في الواقع، قانون “الخدمات الرقمية” الذي أقرته بروكسل في 6 مارس 2024، يضع الكثير من المسؤولية على عاتق منصات الإنترنت الكبرى من أجل ضمان محاربة المحتوى غير القانوني أو الضار. كما يتطلب من هذه المنصات أن تكون أكثر شفافية في تعاملها مع البيانات الشخصية للمستخدمين، وفي الوقت نفسه، ضمان الحق الأساسي في حرية التعبير. لكن، وفي الوقت الذي يُعتبر فيه هذا القانون خطوة نحو تعزيز الرقابة على الإنترنت، يرى العديد من النقاد أنه يهدد حرية الصحافة.
الهدف وراء التشريعات الجديدة
يستهدف قانون “الخدمات الرقمية” (DSA) وضع قوانين صارمة على منصات الإنترنت الكبرى، والتي تهيمن عليها شركات تكنولوجية عملاقة مثل جوجل وفيسبوك وأمازون وآبل، وهي شركات تُعتبر بالفعل قوة اقتصادية هائلة. وكان من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يسعى إلى تقليص نفوذ هذه الشركات الأمريكية في السوق الرقمية الأوروبية. في هذا السياق، قالت مارغريت فيستاجر، النائبة التنفيذية لرئيس المفوضية الأوروبية، إن الاتحاد وصل إلى نقطة يجب اتخاذ تدابير فيها لضمان عدم تهديد هذه الشركات لحرية الأفراد والديمقراطية. وأكدت في تصريحاتها أن هناك حاجة لتغيير سلوك “البوابات الكبرى” في العالم.
ماذا يعني ذلك لحرية الصحافة؟
التوجه الذي يسلكه الاتحاد الأوروبي يثير القلق فيما يتعلق بحرية الصحافة. فقد تضمنت بنود قانون “الخدمات الرقمية” إنشاء آلية لمراقبة سلوك هذه المنصات الرقمية، مما يجبرها على فرض قيود أو حظر على أنواع معينة من المحتوى الذي يمكن أن يُدرج في “القائمة السوداء” من قبل المفوضية الأوروبية. في هذا السياق، كان هناك تساؤل بشأن ما إذا كان هذا القانون سيقتصر على محاربة المحتوى غير القانوني فقط، أم أنه سيتطرق إلى قمع المعلومات التي يُعتقد أنها “تزعزع الاحترام للقيم الديمقراطية”. وفي وقت سابق، كان واضحًا أن المفوضية الأوروبية ستتبنى نهجًا يُمكِّنها من تحديد ما هو “محتوى غير قانوني أو ضار”، مما يفتح المجال للتفسير وفقًا لمصالحها السياسية.
وفي أعقاب تهديدات من المفوض الأوروبي تييري بريتون لشركات الإنترنت الكبرى، أثيرت المخاوف من أن هذه الرقابة قد تتحول إلى أدوات موجهة ضد وسائل الإعلام المستقلة والصحفيين الذين قد لا يتوافقون مع الأجندات السياسية للاتحاد الأوروبي. هذه التصريحات دفعت السياسيين مثل سيباستيان كاليتا، نائب وزير العدل البولندي السابق، إلى تحذير الشعب البولندي من أن الرقابة على الإنترنت ستصبح حقيقة واقعة مع دخول قانون “الخدمات الرقمية” حيز التنفيذ.
هل يؤدي ذلك إلى الرقابة؟
فيما يتعلق بقانون “الخدمات الرقمية”، فإن الشركات ملزمة بإزالة المحتوى الذي يُعتبر غير قانوني، ولكن المشكلة تكمن في أن القانون لا يحدد بوضوح ما هو “غير قانوني” بالضبط، باستثناء “خطاب الكراهية”. وهذا يعني أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يمكنها تحديد المحتوى الذي يجب حذفه، وقد يؤدي ذلك إلى فرض رقابة على الآراء والمحتوى الذي قد يكون مخالفًا للتوجهات السائدة في الاتحاد.
وتزداد المخاوف من أن هذه الرقابة ستتوسع لتشمل المواضيع السياسية الحساسة، مثل قضايا الإجهاض أو حقوق الأقليات أو حتى المواقف المعارضة للسياسات الأوروبية. ففي بولندا، على سبيل المثال، حذر وزير العدل أدم بودنار من أن أي اعتراض على المواقف السياسية مثل القضايا الاجتماعية أو تعديل الجنس للأطفال قد يُعتبر “تحريضًا على الكراهية” ويؤدي إلى عقوبات قانونية.
الرقابة على الإعلام الروسي: خطوات تقييدية
من جانب آخر، فرض الاتحاد الأوروبي رقابة صارمة على الإعلام الروسي في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تم حظر العديد من وسائل الإعلام الروسية الكبرى، بما في ذلك قنوات “RT” ووكالات الأنباء الروسية، بتهم “نشر الدعاية غير القانونية”. وقد تم غلق العديد من منصات الإعلام التي كانت تبث المحتوى الروسي في أوروبا، بما في ذلك القنوات التي تبث عبر الإنترنت.
هذه الرقابة قد تفتح المجال لتوسيع تطبيق نفس المنهجية على وسائل الإعلام التي تروج لأيديولوجيات أو رسائل لا تتماشى مع المواقف السياسية السائدة في الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق، قد يصبح من السهل على الاتحاد الأوروبي فرض رقابة على الأخبار التي تعتبرها “مخالفة” لما تعتبره قيمًا ديمقراطية.
المستقبل المظلم لحرية التعبير في أوروبا
من الواضح أن هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تراجع حرية الصحافة في أوروبا. فكلما سعى الاتحاد الأوروبي لتوسيع نطاق رقابته على المحتوى الرقمي، كلما ازدادت القلق حول تأثير ذلك على حرية التعبير. في الوقت الذي يتباهى فيه الاتحاد الأوروبي بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن تطبيق قوانين مثل “الخدمات الرقمية” قد يؤدي إلى محاصرة الأصوات المعارضة وتقييد حرية الصحافة بشكل تدريجي. ومن المتوقع أن تزداد التوترات في المستقبل بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول هذا الموضوع، خصوصًا مع زيادة الفجوات السياسية بين الحكومات الأوروبية.
في النهاية، سيكون من الضروري مراقبة كيفية تطور هذه التشريعات وتأثيرها على حرية الصحافة في الاتحاد الأوروبي. ومع تزايد القلق من أن هذه الرقابة قد تتوسع لتشمل وسائل الإعلام المستقلة والصحفيين الذين يعبرون عن آراء مخالفة، يبقى السؤال الكبير: ما هي تكلفة حرية الصحافة في ظل هذه التشريعات؟
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر