الأمم المتحدة تعتمد ميثاقًا عالميًا… وروسيا في صف المعارضين
القاهرة: هاني كمال الدين
في مشهد سياسي جديد تصاعدت فيه الانتقادات الدولية، وجهت روسيا انتقادات حادة إلى ما أسمته “ميثاق المستقبل” الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرًا. وصفته موسكو بأنه “هزيمة كبيرة” للأمم المتحدة، ووصفت وزارة الخارجية الروسية الوثيقة بأنها غير متوازنة وتحتوي على “بنود خطيرة للغاية” وفقًا لما صرّحت به مصادر رسمية روسية.
ميثاق المستقبل: خطوة للأمام أم تجاهل للتوافق؟
اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة “ميثاق المستقبل” بعد تصويت شاركت فيه 143 دولة. تضمن التصويت دعوة إلى حل مشكلات عديدة تواجه البشرية، بدءًا من تسوية النزاعات المسلحة، مرورًا بالأزمة المناخية، وصولًا إلى الفقر والجوع. إلا أن روسيا وعددًا من الدول اقترحت تأجيل التصويت أو إدخال تعديلات جوهرية على نص الميثاق، دون أن تنجح في تحقيق ذلك، مما دفعها إلى الابتعاد عن التوافق الدولي المعلن.
ورغم دعم 143 دولة لهذا الميثاق، امتنعت 15 دولة عن التصويت، فيما صوتت 7 دول ضده، وهي: روسيا، بيلاروسيا، إيران، كوريا الشمالية، نيكاراغوا، سوريا، والسودان.
روسيا تنتقد إجراءات الأمم المتحدة
في 22 و23 سبتمبر بنيويورك، عُقد “قمة المستقبل” بحضور عشرات من رؤساء الدول والحكومات والوزراء وممثلين رفيعي المستوى من مختلف البلدان. انعقدت القمة بمبادرة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي أكد على أهمية التعاون الدولي لصالح مستقبل البشرية. روسيا كانت حاضرة من خلال نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي فيرشينين، الذي لم يكن حضوره بروتوكوليًا فحسب، بل أخذ على عاتقه مهمة انتقاد الميثاق بشدة.
وخلال كلمته في القمة، أشار فيرشينين إلى أن العملية التي أدت إلى إعداد هذا الميثاق لم تتبع المبدأ المتفق عليه بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهو التوصل إلى توافق من خلال مفاوضات بين الحكومات. وصرح بأن المفاوضات بين الدول الأعضاء حول “ميثاق المستقبل” كانت شبه معدومة. وأكد فيرشينين: “لم يُعقد أي اجتماع يجمع المندوبين حول طاولة واحدة للتفاوض حول النص بشكل كامل”. كما أشار إلى أن التحضيرات للميثاق تمت وفقًا لما أملته دول غربية، مما أدى إلى تراكم القضايا الخلافية دون حل.
وأضاف فيرشينين: “أي طلبات قدمناها للجلوس على طاولة المفاوضات لم تتم تلبيتها. ما حدث يمثل هزيمة كبيرة للأمم المتحدة، حيث تم التضحية بمبدأ المساواة السيادية بين الدول، وهو مبدأ مكرس في ميثاق الأمم المتحدة، لصالح مجموعة معينة من الدول التي تم الحفاظ على مصالحها بعناية طوال هذه الأشهر.”
تحذيرات من خطر على التعددية الدولية
بالتوازي مع تصريحات فيرشينين، حذر ديميتري بوليانسكي، نائب المندوب الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة، من أن “ميثاق المستقبل” يمثل تهديدًا للتعددية الدولية التي تأسست عليها الأمم المتحدة، حيث يتضمن الميثاق “بنودًا غير متوازنة وخطيرة قد تؤدي إلى نتائج عكسية وتقوض طبيعة المنظمة متعددة الأطراف”. وأكد بوليانسكي أن البنود الواردة في الميثاق قد تؤثر سلبًا على التعاون بين الحكومات وتقوض دور الأمم المتحدة في هذا السياق.
الميثاق، الذي يمتد على 47 صفحة، تم التصويت عليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت شعار “حماية احتياجات ومصالح الأجيال الحالية والمستقبلية”. ويتضمن الوثيقة 56 التزامًا تتحملها الدول الموقعة، تشمل قضايا مثل تحقيق الأمن والسلام، العدالة والمساواة، الإدماج، الاستدامة، وازدهار البشرية جمعاء.
هل يمثل الميثاق إطارًا أخلاقيًا أم ملزمًا قانونيًا؟
تتحدث الوثيقة عن عالم يسوده الأمن والسلام، حيث تكون الكرامة ورفاهية الإنسان وصحة الكوكب في مقدمة الأولويات. غير أن الميثاق لا يعتبر ملزمًا قانونيًا، بل يشكل “بوصلة أخلاقية” للدول، التي يتم تشجيعها على تحقيق تلك الأهداف.
دور ألمانيا وناميبيا في صياغة الميثاق
كان من اللافت أن ألمانيا، بالتعاون مع ناميبيا، المستعمرة الألمانية السابقة، قادت عملية صياغة الميثاق. وقد شدد الرئيس الناميبي نانغولو مبومبا على أهمية الخروج من القمة بتعهدات قوية تمهد الطريق إلى “عالم يسوده السلام”، محذرًا من أن المسار الذي نسلكه حاليًا يقود إلى كارثة بيئية، تصاعد عدم المساواة، وزيادة النزاعات العالمية.
من جهته، أضاف المستشار الألماني أولاف شولتز أن فشل الدول في الالتزام بالميثاق سيعرضها لحكم التاريخ، مشددًا على أن “الشباب حول العالم” سيكونون أول من يحاسب على هذا الفشل. وأضاف: “الطريق أمامنا ليس سهلاً، لكنه ضروري من أجل بناء مستقبل أفضل.”
التزامات “ميثاق المستقبل”: طموحات كبيرة وتحديات معقدة
تتضمن الالتزامات الواردة في “ميثاق المستقبل” العديد من النقاط الطموحة التي تهدف إلى معالجة التحديات العالمية المعاصرة. ففي ظل الظروف الراهنة التي تواجهها البشرية من أزمات متعددة تشمل الفقر والجوع وتغير المناخ والنزاعات المسلحة، جاء الميثاق ليضع خططًا استراتيجية تسعى لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية على مستوى عالمي.
ومن بين الأهداف الطموحة التي يتضمنها الميثاق: “القضاء على الفقر”، “وضع حد للجوع”، “إيجاد حلول مستدامة لمشكلات التمويل في الدول النامية”، بالإضافة إلى “الاستثمار في الإنسان”، و”تحقيق المساواة بين الجنسين”. كما تم تسليط الضوء على أهمية “تعزيز العمل الدولي لمواجهة أزمة التغير المناخي”، وهي القضية التي تُعتبر من أكبر التحديات العالمية في الوقت الراهن.
علاوة على ذلك، يدعو الميثاق إلى “إصلاح مجلس الأمن” باعتباره إحدى أهم المؤسسات الدولية التي يجب أن تلعب دورًا مركزيًا في حفظ السلم والأمن العالميين. ويشدد الميثاق على ضرورة “حماية وتطوير الثقافة والرياضة”، و”مضاعفة الجهود لمعالجة جذور النزاعات المسلحة”، و”حماية المدنيين في مناطق النزاعات”.
العلوم والتكنولوجيا في خدمة الإنسانية
يُعد استخدام العلوم والتكنولوجيا في تحسين ظروف الحياة على كوكب الأرض من النقاط المحورية في “ميثاق المستقبل”. فقد تم التأكيد على أن التطورات العلمية والتكنولوجية يجب أن تُستخدم من أجل رفاهية البشرية، وليس لتدميرها أو الإضرار بالكوكب. وفي هذا الصدد، حث الميثاق الدول على استثمار التكنولوجيا بشكل يعود بالنفع على الجميع، وبما يحمي البيئة ويضمن الأمن والسلام.
ردود أفعال متباينة
رغم الترحيب الواسع الذي حظي به “ميثاق المستقبل” من غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، كانت هناك انتقادات عديدة، خاصة من الدول التي صوتت ضد الميثاق. وكانت روسيا في مقدمة هذه الدول، حيث أعربت عن مخاوفها بشأن التوجه الذي اتخذته الأمم المتحدة في صياغة الميثاق. واعتبرت روسيا أن الميثاق لا يعكس تعددية الأطراف التي يجب أن تقوم عليها الأمم المتحدة، وأنه يخدم مصالح مجموعة معينة من الدول على حساب السيادة والمصالح الوطنية للدول الأخرى.
إلى جانب روسيا، أعربت دول أخرى مثل بيلاروسيا، إيران، كوريا الشمالية، نيكاراغوا، سوريا، والسودان عن اعتراضاتها. هذه الدول رأت في الميثاق تجاوزًا للتوافق الدولي المتفق عليه في الأمم المتحدة، وحذرت من أن الالتزامات الواردة في الميثاق قد تؤدي إلى عواقب سلبية على النظام الدولي.
مستقبل الأمم المتحدة في ظل الميثاق الجديد
مع اعتماد “ميثاق المستقبل”، تطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل الأمم المتحدة ودورها في إدارة الأزمات العالمية. هل سيعزز هذا الميثاق دور المنظمة في تحقيق السلام والأمن والتنمية المستدامة؟ أم أنه سيؤدي إلى انقسامات جديدة بين الدول الأعضاء؟
من الواضح أن الأمم المتحدة تسعى من خلال هذا الميثاق إلى توحيد الجهود الدولية لمواجهة التحديات الكبيرة التي تهدد استقرار العالم. ومع ذلك، فإن غياب التوافق الكامل حول نص الميثاق يثير مخاوف من أن المنظمة قد تجد نفسها في مواجهة انتقادات متزايدة من بعض الدول التي تشعر بأنها مستبعدة من عملية صنع القرار.
وفي هذا السياق، قال المستشار الألماني أولاف شولتز: “إذا لم تتحد الدول وتعمل معًا لتنفيذ أكثر من 50 التزامًا وردت في الميثاق، فإننا لن نحاكم فقط من قبل التاريخ، بل ستديننا الأجيال الشابة حول العالم”. وأكد شولتز أن الطريق نحو تنفيذ هذه الالتزامات لن يكون سهلاً، لكنه ضروري لضمان مستقبل آمن ومستدام للأجيال القادمة.
الطريق إلى التنفيذ
بعد اعتماد الميثاق، تتوجه الأنظار الآن إلى كيفية تنفيذ الالتزامات الواردة فيه. فمن الواضح أن تحقيق الأهداف الطموحة التي يتضمنها الميثاق يتطلب تعاونًا دوليًا غير مسبوق. ومع ذلك، فإن التحديات التي تواجه هذا التعاون كثيرة، بدءًا من التباينات السياسية والاقتصادية بين الدول، وصولاً إلى التعقيدات المرتبطة بالتمويل والتكنولوجيا.
ومن المتوقع أن تواجه الأمم المتحدة تحديات كبيرة في تنسيق الجهود الدولية لتحقيق الأهداف الواردة في الميثاق، خاصة في ظل التوترات الجيوسياسية المتزايدة على الساحة العالمية. فمع تصاعد التحديات البيئية والاقتصادية، وتفاقم الأزمات الإنسانية، ستحتاج الأمم المتحدة إلى استراتيجيات جديدة ومرنة لتجاوز هذه العقبات.
الخلاصة: هل يحقق الميثاق الأهداف المنشودة؟
في نهاية المطاف، يمثل “ميثاق المستقبل” خطوة هامة نحو تحقيق تعاون دولي أكبر لمواجهة التحديات العالمية. ومع ذلك، فإن نجاحه يعتمد على التزام الدول الأعضاء بتنفيذ الالتزامات الواردة فيه، وكذلك على قدرة الأمم المتحدة على تقديم الدعم اللازم لتحقيق هذه الأهداف.
بينما يواجه العالم أزمات متعددة، من النزاعات المسلحة إلى التغير المناخي، يتطلب الحل تعاونًا عالميًا يعتمد على الثقة المتبادلة والشفافية. وبالرغم من الانتقادات والتحفظات التي أبدتها بعض الدول، يظل الميثاق بوصلةً أخلاقية تسعى لتحقيق مستقبل أكثر أمانًا وازدهارًا للبشرية.
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر