سوريا في الأرشيف العثماني.. الأمير شكيب أرسلان

من كبار المفكرين وأبرز دعاة الوحدة العربية والإسلامية، كاتب ومفكر وأديب، لقّبَهُ الأدباء بأمير البيان، وله إسهامات فكرية وأدبية وسياسية كثيرة.
ولد الأمير شكيب بك أرسلان في ناحية الشويفات بلبنان أواخر سنة 1869، وتوفي في أواخر عام 1946، من أسرة درزية عريقة. تعلم القراءة والكتابة على يد الشيخ “شاهين سلمان” في ناحية الشويفات، ثم نَدَب له المعلم “أسعد أفندي فيصل” الذي أقرأه القران الكريم حتى حفظ جانباً منه. درس علوم العربية والتركية والفارسية في مدرسة الحكمة في بيروت، ثم تابع تحصيل علومه في المدرسة السلطانية ببيروت عام 1886.
حضر أرسلان دروس الشيخ “محمد عبده” الذي كان منفياً حينذاك من مصر إلى بيروت، فلازمه وارتبط به ارتباطاً نفسياً وفكرياً كبيراً. وكانت تلك الصحبة بحق مفتاح حياته، بل من الممكن أن نقول إن هذا الارتباط كان من العمق والقوة إلى حد التشكيل الكامل لأهدافه وغاياته في هذه الحياة. سبق هذا اللقاء لقاء آخر، لا يقل في قيمته وتأثيره، مع ابن قرية “قلمون” بطرابلس رشيد رضا، عندما ذهب إلى مصر عام 1898 وطرق باب بيت الإمام قائلاً: “أريد أن أكون منك مثل ما كنت أنت من جمال الدين”. واجتمع مع الشيخ جمال الدين الأفغاني في إسطنبول عام 1892. كما تأثر بأفكار الشيخ عبد الله البستاني، وأحمد فارس الشدياق، وإسماعيل صبري.
عاش الأمير في فترة تاريخية حافلة بجلائل الأحداث في الشرق والغرب بصفة عامة. وفي العالم العربي بصفة خاصة، وفي بلاد الشام موطن الأمير بصفة أخص؛ كحركة اليقظة القومية العربية، وانبثاق التيارات الفكرية، وتغلغل الفكر الغربي، والتنازع بين الطوائف والأديان، وقيام الثورة العربية في الحجاز، ومآسي الاحتلال، والانتداب، والوصاية، والحماية، وقيام الحرب العالمية الثانية، واستقلال سوريا ولبنان، وغير ذلك من الأحداث.
شهد تطور العالم العربي خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وشاهد الأحداث الجسام التي مرت بأمته، وفهم الدسائس والمؤامرات التي تحاك لها، وكان على مقربة من مركز الخلافة في الأستانة (إسطنبول) وتحققت له صلات ومعرفة برجال الحكم العثماني، وفاضت كتاباته بالحديث عن كل ذلك. كما يُلاحظ أيضاً تحول حياة شكيب بك من النزعة الإسلامية إلى النزعة العربية الإسلامية وعُزي ذلك إلى نتائج الحرب العالمية الأولى وما حدث بعدها من تمزيق للبلاد العربية، وتقاسمها بين الحلفاء.
تباينت علاقة الأمير شكيب أرسلان مع قادة متصرفية جبل لبنان ما بين الموادعة والخلاف وفي كل مرة ترفع بحقه التقارير إلى الجهات العليا في الأستانة، وأكثر ما نجد ذلك في فترة خلافه مع متصرف جبل لبنان “مظفر باشا”، الذي أصر على نفيه من لبنان إلى مصر كما في التقرير المرفوع إلى رئيس الكتّاب في الأستانة سنة 1902، يطلب فيه إصدار الأمر بمعاقبة الأمير شكيب أرسلان بتبعيده ونفيه عن موطنه لعدم إطاعته الأوامر وسوء حركاته. (الوثيقة رقم: Y_PRK_UM_61_31_1). ثم ينفي التهمة عنه رئيس العسكر، ويؤكد أن الأسرتين الدرزيتين آل جنبلاط وآل أرسلان هي من الأسر الصديقة للدولة العثمانية والملتزمة بالتعاليم والقوانين الحكومية بانتظام. (الوثيقة رقم: Y__MT_235_45_1 تاريخ: 1902).
أُجبر الأمير شكيب على المغادرة فرحل إلى مصر وأقام بها عاماً كاملاً، ثم عاد بعدها إلى جبل لبنان، ما أثار حفيظة المتصرف مظفر باشا، فأرسل كتاباً إلى رئاسة الوزراء يفيد فيه بأن الأمير شكيب قد فر من مصر بعد أن روّج أفكار الإنكليز في مقالاته التي نشرها في جريدة المقطم المصرية، وهو الآن يطرح أفكار “اللورد كرومر” في جبل لبنان لدى الدروز وأهالي حوران، وطلب معاقبته بإصدار الأوامر السلطانية اللازمة لذلك. (الوثيقة رقم: Y_PRK_UM67_31_1 تاريخ: 1903).
عام 1908 انتخب الأمير نائباً في مجلس المبعوثان عن سنجق حوران في دورته الأولى 1908 والثانية 1912. وأثناء نيابته في البرلمان سنة 1911، شارك في الحرب الطرابلسية مع المجاهدين وجمع التبرعات المالية بمساعدة (عبد الرحمن بك اليوسف ومحمد باشا العظم والشيخ بدر الدين أفندي والشيخ أسعد الشقير والدكتور حسن الأسير والشيخ حسين الحبال وابنه محمد باشا) كما توطدت علاقته بأنور باشا وجمال باشا قادة القوات العثمانية. (الوثيقة رقم: DH_KMS_63_9_1 و(الوثيقة رقم: DH_SYS_49_57_2_1).
وفي عام 1912 عُين مفتشاً لبعثات ” الهلال الأحمر المصري”. ثم نُدب إلى ولاية الحجاز بطلب من واليها من أجل إعداد دراسة كاملة لإعادة تأهيل المرافق الحيوية وتوسعات المسجد الحرام وإنشاء المدارس وإصلاح الطرق وبناء الاستراحات وكل ما يخدم ويسهل حركة الحاج إلى بيت الله الحرام. وقد أعد تقريراً بذلك ورفعه إلى رئاسة مجلس الوزراء في الأستانة (الوثيقة رقم: BEO_004248_318545_3_2 تاريخ: 1912).
سنة 1914 وبالتعاون مع أنور باشا وأهالي حوران شكّل فوجاً مقاتلاً رديفاً للقوات العسكرية العثمانية وشارك شكيب بنفسه في بعض أعمال الحرب العالمية الأولى إلى جانب الجيش العثماني. يقول الأمير شكيب في ديوانه ص 129: “ولقد أقمت بقصبة معان شيع (مقدار) شهر في أثناء الحرب العامة سنة 1915 إذ كنت ذاهباً ومعي 120 مجاهداً من جماعتي إلى حرب الترعة منضماً إلى الجيش العثماني الحجازي الذي كان يقوده وهيب باشا، وسرنا من معان هبوطاً مستمراً إلى قلعة النخل في صحراء التيه، ولقد قطعت في تلك الرحلة جانباً من جبال الشراة، وعرفت أي جبال هي”. وللأمير شكيب مقالات وقصائد كثيرة يعبر فيها عن حبه وانتمائه للخلافة العثمانية، كما يصف في إحدى قصائده:
أحبكم حب من يدري مواقفكم في خدمة الدين والإسلام من حقب
أحبكم حب من يسعى لطيته في طاعة العقل، لا في طاعة الغضب
مهما يكن من هنات بيننا، فلنا معكم على الدهر عهد غير منقضب
كفى” الشهادة” فيما بيننا نسباً إن لم تكن جمعتنا وحدة النسب
مجدي بعثمان حامي ملتي، وأنا لم أنس قحطان في الورى وأبي
انتهت الحرب بهزيمة العثمانيين، وأدركت العرب نشوة مؤقتة، لاعتقادهم أن يوم الفوز في قضيتهم على الأبواب، وبدا لشكيب أن سياسته التي كان يتبعها قد باءت بالإخفاق وأنه لم يبق له مقام بين قومه الذين خالفهم في الرأي، فقرر الرحيل إلى تركيا، مدينة “مرسين”، ثم رأى أن تركيا تبدلت فيها الأحوال، وانقلبت فيها الأفكار وبدت البغضاء للعرب ظاهرة؛ فسافر إلى برلين 1924، ثم انتقل إلى جنيف عام 1926، ليشارك الوفد العربي الذي يدافع عن قضايا العرب أمام جمعية الأمم بجنيف في سويسرا.
عاد الأمير إلى سوريا عام 1937، واستقبل استقبالاً حماسياً قوياً، وزار دمشق وخطب فيها مشيراً إلى قضية فلسطين، وإلى معاهدة سوريا مع فرنسا، كذلك زار حلب وخطب في الجامع الكبير، فكان مما قاله: “إن المسلم يستمد استقلاله من القرآن، وإن إيمان المسلم غير الكامل إنما هو إيمان ناقص، ولا توجد الوطنية الصحيحة إلا في قلب المؤمن العامر بالإيمان”. اختارته الحكومة السورية رئيساً للمجمع العلمي العربي، لكنه ترك المجمع بعد أن تنكرت فرنسا للمعاهدة التي عقدتها مع سورية عام 1936 ثم عاد إلى سويسرا عام 1939.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وزوال شبح الاستعمار الفرنسي عن سوريا، عاد شكيب إلى داره في بيروت 1946، فرأى قومه وأسرته، وسعد بمشاهدة وطنه حراً مستقلاً طليقاً دون أغلال الاحتلال والاستبداد. بيد أن الأمراض سرت في جسده المتعب من النقرس إلى تصلب الشرايين والرمل في الكليتين، ووهن الشيخوخة، وقد دنا من الثمانين.
قال عندما طلب منه عبد الله المشنوق كتابة مذكراته: “إني مريض وأشعر بدنو الأجل وأنا أحمد الله عز وجل الذي سهل لي أن أفارق الحياة على ارض هذا الوطن الذي أحببته، وقاسيت من أجله التشريد والنفي والاضطهاد. أجل سأموت هنا قرير العين ناعم البال، فتختلط رفاتي بتربة هذا الوطن، بعد أن أتم الله نعمته عليّ، فشهدته حراً عزيزاً. أنا سعيد أن أدفن في تربة طاهرة، لا ترفرف فوقها راية أجنبية، وأنا سعيد أن ألاقي وجه ربي الكريم، فأعيد الأمانة إلى باريها، بعد أن تحققت أحلام طفولتي في هذه الجامعة العربية حرسها الله، وسأخبر رفاقي في الجهاد بأن تضحياتهم لم تلكن عبثاً). لفظ شكيب آخر أنفاسه ليلة الإثنين 15 من محرم سنة 1366 هـ/ 9 كانون الأول سنة 1946م.
قال في رثائه خليل مطران:
طُفئ الصباح بعيني الإلهام وتغمد اللألاء جفن ظلام
وكأن شمس العبقرية كُفنت بعد ازدهار شعاعها بقتام
لولا شفوف حجابها عن شاحب من ضوئها لم يبد للمستام
تعتادنا والذكريات كأنها آثار رائعة من الأحلام
مؤلفات الأمير شكيب أرسلان
- كتب مئات المقالات في الجرائد والمجلات العربية والأجنبية، كذلك البيانات والملخصات والتقارير الدولية لا سيما إبان إقامته في جنيف، كما ورد في مقالة عنه أنه يكتب في كل شهر نحو 1500 صفحة متعددة المواضيع.
- كتاب الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (ثلاثة أجزاء)
- كتاب تاريخ ابن خلدون
- كتاب لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم.
- كتاب تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط.
- كتاب الارتسامان اللطاف في خاطر الحاج إلى القدس مطاف.
- كتاب النهضة العربية في العصر الحاضر.
- كتاب شوقي صداقة أربعين سنة.
المكافآت
كرمه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني برتب وأوسمة متعددة، وفي مناسبات كثيرة منها ترقيته رتبة ثانية من التسلسل الوظيفي للدولة العثماني عام 1893م. (الوثيقة رقم: İ_TAL_53_36_1).
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر