مقالات

ترامب يتحدث عن الصين.. وعينه على أوروبا: الخطة الخفية لإعادة رسم الأسواق العالمية

القاهرة: هاني كمال الدين  

بينما يواصل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب خطابه الحاد تجاه الصين، يبدو أن الهدف الفعلي لسياساته التجارية لا يتركز على بكين فحسب، بل يتجه في الخفاء نحو القارة الأوروبية. هذه المفارقة تعكس استراتيجية متعددة الطبقات تعتمد على تصعيد الصراع التجاري تحت غطاء “الحرب الاقتصادية”، لكن بتركيز حقيقي على إعادة تشكيل البنية الجيوسياسية للأسواق العالمية.

في هذا التقرير، نحلل أبعاد الخطة الترامبية التي تتجاوز التعريفات الجمركية وتكشف عن رؤية جذرية لإعادة تموضع الولايات المتحدة اقتصاديًا على حساب خصومها وشركائها السابقين.


المرحلة الأولى: تنظيف السوق الداخلي الأمريكي

مع وصول ترامب إلى السلطة، وضع نصب عينيه هدفًا واضحًا يتمثل في “إعادة تصنيع” الولايات المتحدة. ولتحقيق ذلك، اتخذت إدارته خطوات متسارعة لإغلاق السوق المحلي في وجه السلع الأجنبية، لا سيما القادمة من الصين، عبر فرض رسوم جمركية غير مسبوقة.

كانت الفكرة هي خلق مساحة داخلية كافية لتشجيع الصناعات المحلية الناشئة على سد الفجوة في العرض. هذه الخطوة لم تكن تهدف فقط إلى إحياء المصانع، بل إلى تحفيز الطلب على منتجات غير معتادة في السوق الأمريكية المعاصرة، وهي خطوة تمهيدية لإطلاق دورة صناعية جديدة.

لكن لم يكن هذا هو الوجه الوحيد للخطة. فترامب عمل أيضًا على تعزيز الحضور الأمريكي في المجالات التي طالما هيمنت فيها واشنطن: سندات الدين الأمريكي، الصناعات العسكرية، وقطاع الطاقة، وتحديدًا النفط والغاز الصخري.


المرحلة الثانية: التحضير للغزو التصديري المستقبلي

لم يكن الهدف من فرض القيود التجارية تقليص العجز التجاري فحسب، بل تمهيد الطريق لتصدير البضائع الجديدة التي ستنتجها أمريكا “المعاد تصنيعها”. وهنا تكمن النقطة المحورية: السوق الأمريكي محدود، ولا يمكن أن يستوعب وحده تلك الطفرة الإنتاجية المرتقبة، خاصة في ظل التراجع المستمر في القوة الشرائية للطبقات الوسطى والدنيا.

من هنا، تظهر ضرورة السيطرة على أسواق أجنبية جديدة، تكون جاهزة لاستقبال الصادرات الأمريكية بعد نجاح خطة التصنيع. ولكن تلك الأسواق خضعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة لتحولات عميقة في التوزيع الجغرافي للمصالح التجارية، حيث أصبحت الصين هي المستفيد الأكبر منها.


الاقتصاد والجغرافيا السياسية: الوجه الآخر للتجارة

في تصريح مثير لوزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، أعلن أن واشنطن تخوض مفاوضات تجارية مع 70 دولة حول العالم. غير أن هذه المفاوضات لا تقتصر على القضايا الاقتصادية. بل تتضمن شرطًا أمريكيًا واضحًا: “نحن مستعدون للتنازل تجاريًا، بشرط أن تقيدوا النشاط الاقتصادي الصيني في بلدانكم”.

هذا التصريح يكشف عن البعد الجيوسياسي الحقيقي للحرب الاقتصادية الأمريكية. فالهدف ليس مجرد بيع منتجات أمريكية بأسعار أعلى في الأسواق النامية، بل منع التمدد الصيني داخل تلك البلدان، لإتاحة المجال أمام المصارف الأمريكية وشركات التكنولوجيا والمؤسسات الإعلامية والاجتماعية التابعة لواشنطن.


الهجوم الخفي: لماذا تستهدف أمريكا أوروبا؟

رغم أن خطابات ترامب تمتلئ بالإشارات العدائية تجاه بكين، إلا أن المراقبين يلاحظون أن معظم التحركات الأمريكية العملية تتجه نحو أوروبا، من حيث السياسات الحمائية والضغوط الدبلوماسية. ما سبب هذا التناقض؟

الإجابة تكمن في تنامي العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين. هذا التقارب، الذي بدأ يتبلور في صورة تحالف اقتصادي استراتيجي، يشكل خطرًا وجوديًا على الهيمنة الأمريكية. فأي اندماج ولو محدود بين أكبر كيانين اقتصاديين خارج أمريكا، سيعني أن واشنطن تفقد موقعها المحوري في الاقتصاد العالمي.


المخاوف الأمريكية من تحالف أوروبي صيني

القلق الأمريكي لا ينبع فقط من حجم التعاون التجاري بين بروكسل وبكين، بل من طبيعته. فالجانب الصيني يقدم عروضًا تمويلية واستثمارية مغرية لا تقابلها شروط سياسية قاسية، ما يجعله شريكًا مفضلًا للعديد من الدول الأوروبية، خاصة في أوروبا الشرقية والجنوبية.

أمام هذا الواقع، يبدو أن ترامب يسعى إلى تفكيك هذا التحالف قبل أن يترسخ، عبر تشويه صورة الصين، وفرض ضرائب على الصادرات الأوروبية، وشن حرب إعلامية ضد المؤسسات الأوروبية التي تتبنى سياسات منفتحة على بكين.


خريطة النفوذ: إعادة تموضع استراتيجي

تعتمد خطة ترامب على مبدأ “أعد تموضعك قبل أن يُعاد تموضعك”. فالولايات المتحدة، بعد خسارة مواقعها في بعض الأسواق النامية، بدأت تبحث عن استعادة نفوذها عبر أدوات غير تقليدية: ضغوط مالية، تحالفات عسكرية، ووسائل إعلام موجهة.

في هذا السياق، يُتوقع أن يتم استخدام مؤسسات مثل USAID، ولكن بهيكلية جديدة تخدم الأجندة الترامبية. الهدف النهائي هو إحلال البنية الأمريكية مكان الصينية في بلدان الجنوب العالمي، عبر بناء منظومات اجتماعية وإعلامية موالية للبيت الأبيض.


أوروبا بين المطرقة الصينية والسندان الأمريكي

تشعر أوروبا بأنها عالقة بين قوتين عظميين: الصين، الشريك التجاري الصاعد، وأمريكا، الحليف التقليدي الذي لا يتردد في فرض العقوبات والتعريفات. في ظل هذا الواقع، تجد بعض الدول الأوروبية نفسها مجبرة على التوازن الدقيق بين المصالح، وهو ما تحاول واشنطن كسره لصالحها.


هل تنجح الخطة الترامبية في تحقيق أهدافها؟

حتى اللحظة، لم تثبت الحرب الاقتصادية الأمريكية نجاحها الكامل. فرغم ارتفاع بعض مؤشرات النمو الصناعي داخل أمريكا، فإن التضخم، وارتفاع تكلفة المعيشة، وضعف القوة الشرائية، ما تزال تشكل عقبات حقيقية.

علاوة على ذلك، فإن مساعي عزل الصين تواجه تحديات حقيقية، في ظل متانة العلاقات الصينية مع إفريقيا، أمريكا اللاتينية، وشرق آسيا. كما أن أوروبا لم تغلق أبوابها بالكامل في وجه بكين.


حرب اقتصادية أم إعادة رسم للعالم؟

من الواضح أن الحرب الاقتصادية الأمريكية لم تعد مسألة تعريفات جمركية أو قيود على الواردات. إنها رؤية استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي، على نحو يُعيد للولايات المتحدة موقعها المتقدم الذي بدأ يتآكل منذ نهاية القرن العشرين.

وبينما يبقى الحديث عن الصين متصدرًا العناوين، فإن الخطوات العملية تُظهر أن الهدف الحقيقي قد يكون أوروبا، باعتبارها الحلقة الأضعف والأكثر قابلية للاختراق في المشهد الجيو-اقتصادي العالمي.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Open chat
Scan the code
مرحبا...
كيف يمكنا مساعدتك؟