يوميات صيف سوري قائظ… كيف يتأقلم الناس مع انقطاع الكهرباء؟
تسلط مقالة الصحافية السورية زينة شهلا الضوء على الظروف القاسية التي يعيشها سكان دمشق وسط موجات الحر المتكررة، والتي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. ويتناول التقرير معاناة الناس في التكيف مع هذه الظروف، مع ضعف البنية التحتية للكهرباء بسبب الحرب والانهيار الاقتصادي، مما يجعل الحياة في الصيف أكثر صعوبة، خاصة مع انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة يومياً.
ويسلط المقال الضوء على كيف أصبح التعامل مع موجات الحر تحديًا يوميًا لكثير من السوريين، مع حلول بديلة مثل المراوح التي تعمل بالبطاريات والمولدات الخاصة، والتي تحمل بدورها عبئًا ماليًا إضافيًا. كما يعكس التقرير الواقع الاجتماعي والاقتصادي القاسي، حيث أصبح البقاء في الظل أو الحصول على بعض الثلج ترفًا لا يستطيع الكثير من الناس تحمله، مما أدى إلى تعميق الفجوة الطبقية في سوريا.
وهنا الترجمة الكاملة:
أستيقظ وأنا غارق في العرق، وهذا يعني أننا في منتصف شهر أغسطس/آب، وفي المكان الذي أعيش فيه في دمشق، وصلنا إلى أشد أيام الصيف حرارة، حيث وصلت درجات الحرارة إلى 40 درجة مئوية بسهولة، بل إنها تتجاوز ذلك في بعض أجزاء من البلاد.
لدي مروحة تعمل بالبطارية، ولكن مع كل هذه الحرارة والرطوبة، فهي لا تفيدني في الحصول على نوم جيد ليلاً، ولهذا السبب نحتاج إلى تكييف الهواء، ولكن بدون كهرباء فإن رفاهية وجود مكيف الهواء لا فائدة منها أيضًا، ففي هذا الجزء من العاصمة، الذي يعتبر راقيًا إلى حد ما، نحصل على الكهرباء لمدة ست ساعات يوميًا.
بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب الوحشية في سوريا، تم تدمير البنية التحتية للكهرباء في البلاد إلى حد كبير. وإلى جانب الدمار، انهار الاقتصاد، وجعلت العقوبات الغربية من الصعب استيراد الوقود. كل هذا يعني أن انقطاع التيار الكهربائي أصبح أطول، حيث أصبحت معظم أجزاء البلاد التي يسيطر عليها النظام الآن بدون كهرباء لمدة 22 ساعة في اليوم.
قبل أن أبدأ يومي المعتاد، أستحم بماء بارد كحل مؤقت لمقاومة الحر، وفي الصفحة الرسمية للمديرية العامة للأرصاد الجوية السورية، قرأت النشرة الجوية، وتبين أن درجات الحرارة تستمر في الارتفاع عن المعتاد بنحو درجتين إلى أربع درجات مئوية، أي أن الطقس حار نسبياً وصافٍ بشكل عام في الصيف، لذلك ينصح الناس بعدم التعرض لأشعة الشمس المباشرة خلال ساعات الذروة.
“أعلى من المعتاد” لقد صادفت هذه العبارة كثيرًا هذا الصيف، الذي كان من أكثر الأيام حرارة.
10 صباحا
أقود سيارتي في شوارع دمشق، وأشعر بالشمس تقترب مني، وأسمع أصوات المولدات في كل مكان، حيث قامت أغلب المحلات التجارية بتركيب مولدات في الشوارع المجاورة لها، حتى يتوفر لديها ما يكفي من الكهرباء للإضاءة أو القيام بمهام أساسية أخرى.
وأقول لنفسي كم أنا محظوظة لأن وظيفتي لا تتطلب مني العمل في الخارج، وأنني أمتلك سيارة وأستطيع أحياناً أن أتحمل تكاليف وقودها. وبصفتي صحفية، أستطيع أن أعمل في مقهى أو في المنزل معظم الوقت، ولكن أغلب الناس يؤدون عملهم وهم يقضون ساعات طويلة في الخارج، دون حماية من الشمس، ويستخدمون وسائل النقل العام المزدحمة وغير الموثوقة.
أحياناً أستقل سيارة أجرة للذهاب إلى العمل، وقبل أيام أخبرني أحد السائقين أن عمله أصبح لا يطاق بسبب الحرب، وأنه لم يعد يستطيع تحمل تكلفة تشغيل مكيف السيارة، لأنه يستهلك الكثير من الوقود، حيث لا يحق لكل شخص سوى حصة محدودة من البنزين المدعوم من الدولة، والأسعار في السوق السوداء تكاد تكون ضعف ذلك. فقال لي: “الحياة أصبحت صعبة هنا، ولكن ماذا نفعل؟ كيف يمكننا إصلاح كل هذا؟”. كنت حائراً ولم أجد إجابة مرضية.
تختلف الحياة في سوريا بشكل كبير اعتمادًا على المكان الذي تعيش فيه وكم الأموال التي تملكها، ولكن في جميع أنحاء البلاد، يعيش 90٪ من سكان سوريا البالغ عددهم 23.5 مليون نسمة تحت خط الفقر، ويكافح الملايين من أجل العثور على عمل أو تأمين الأساسيات مثل الغذاء الكافي أو الوقود، والحرب مستمرة فعليًا في أجزاء أخرى من البلاد (على الرغم من أنها توقفت حيث أعيش)، ولكن التعامل مع الحرارة هو مجرد مشكلة أخرى تضاف إلى قائمة طويلة من المشاكل المستعصية بالنسبة لمعظم الناس هنا.
وبينما كنت أقود سيارتي، توقفت على جانب الطريق لأتحدث إلى رجل يبيع المكسرات اللذيذة من عربته. أخبرني أنه يتحرك قليلاً كل ساعة ليتبع الظل الذي توفره شجرة قريبة، وأنه كان يعمل في نفس المكان لأكثر من عشرين عامًا، من الثامنة صباحًا حتى الثامنة مساءً.
بائع الجوز، الملقب بأبو عمر، يبلغ من العمر 45 عاماً، وليس لديه أي مصدر دخل آخر سوى بيع الجوز. ورغم ذلك، يقول لي إن هذا الصيف كان الأكثر حرارة منذ بدأ العمل، لكنه مضطر إلى الاستمرار في العمل والتكيف مع الحرارة. ويقول: “أذهب إلى الحديقة العامة القريبة لغسل وجهي بالماء البارد كل ساعة تقريباً”.
في الحديقة كان بعض الأطفال يلعبون بمياه الصنبور المفتوحة، محاولين تبريد أجسادهم من شدة الحر. تمنيت لو أستطيع أن أفعل الشيء نفسه، وفكرت فيما حدث الأسبوع الماضي عندما كنت في الشمال في مدينة حماة، حيث كان الأطفال يسبحون في نهر العاصي للتبريد، حتى لو لم تستغرق السباحة سوى بضع دقائق.
بالنسبة لمعظم الناس في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لم يعد تخفيف آثار الحر مجرد متعة بسيطة، بل أصبح مسألة حياة أو موت، سواء الآن أو في المستقبل، فهناك العديد من الدراسات حول زيادة موجات الحر التي تهدد الحياة اليومية للناس في هذه المنطقة، وخاصة الفئات الأكثر ضعفاً، وخاصة النساء والأطفال والعمال المياومين. وذكرت إحدى الدراسات أنه بحلول نهاية هذا القرن، سيتعرض نصف سكان المنطقة لموجات حر شديدة بشكل سنوي ومتكرر، أي أن درجات الحرارة ستصل إلى 56 درجة مئوية أو أكثر وستستمر على هذا النحو لأسابيع.
ورغم أن درجات الحرارة لم تصل بعد إلى هذا المستوى، فقد سجلت الأخبار المحلية هذا الصيف في سوريا مئات الحالات من الأشخاص الذين طلبوا المساعدة ونقلوا إلى المستشفى بسبب ضربة شمس، وغرق أشخاص أثناء محاولتهم تبريد أنفسهم بالسباحة في موجات الحر الشديدة. وفي العام الماضي، وخاصة في شمال غرب سوريا، وصلت درجات الحرارة إلى 46 درجة مئوية وظلت على هذا الحال لعدة أيام.
وفي أماكن أخرى من المنطقة، تشتد موجة الحر أكثر فأكثر. فقد توفي أكثر من 1300 شخص في مكة المكرمة في وقت سابق من هذا الصيف أثناء أداء فريضة الحج بسبب درجات الحرارة التي وصلت إلى 46-49 درجة مئوية.
الساعة الحادية عشر صباحا
أوقف سيارتي وأتجه نحو مقهى صغير أجلس فيه عادة مع حاسوبي المحمول لأكتب مقالاتي. وفي الشارع أرى بعض الناس يحملون قطعاً من الورق أو الكرتون لتغطية رؤوسهم، بينما يبرد آخرون أنفسهم بكأس من العصير الطازج البارد المباع على جانب الطريق. وأظل أفكر في الأسواق المغطاة التي تشتهر بها هذه المنطقة، يا لها من طريقة ذكية لحماية أنفسهم من العوامل الجوية، ولكن هل تصور القائمون على بنائها أن درجات الحرارة قد تصل إلى هذا المستوى؟
داخل المقهى وصلنا إلى أشد أوقات النهار حرارة، والتي تمتد من الساعة 12 إلى الساعة الثالثة ظهراً، يجلس العشرات من أصحاب المهن الحرة في مجالات التصميم الجرافيكي والترجمة وإنشاء المحتوى، مستغلين توفر الكهرباء لإنجاز أعمالهم التي سيقدمونها للزبائن داخل وخارج البلاد، حيث لا يستطيع أغلبهم شحن هواتفهم أو حواسيبهم المحمولة في المنزل.
لكن ارتفاع أسعار الوقود يعني أن أصحاب المقاهي لم يعد بوسعهم تشغيل مكيفات الهواء، ويعتمدون الآن على عدد قليل من المراوح لتحريك الهواء الساخن. جلست أعمل لبضع ساعات، لكن هاتفي وجهاز الكمبيوتر الخاص بي أصبحا ساخنين، لأن كل شيء حولي كان ساخنًا للغاية، وشعرت بالإرهاق الشديد بعد بضع ساعات.
3 مساءا
توجهت إلى منزلي، وبينما كنت أسير إلى سيارتي، رأيت ملصقات مثبتة على الجدران تحمل رقم هاتف للاشتراك في المولدات الكهربائية الخاصة. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، انتشرت هذه المولدات في معظم أنحاء وسط دمشق، وإن كانت انتشرت أيضاً إلى أجزاء أخرى من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة مثل ريف دمشق وحلب. ونحن نستخدم كلمة “أمبير” للإشارة إلى المولدات الكهربائية، التي أصبحت بمثابة حل سحري للعديد من مشاكل الصيف.
وتنتشر المولدات الكهربائية في مختلف أرجاء المدينة، وبات بإمكان المواطنين وأصحاب المحال التجارية الاشتراك بمبلغ ثابت للحصول على الكهرباء، مثل أمبير أو اثنين، لإضاءة منازلهم ومحالهم التجارية وتشغيل الأجهزة الكهربائية فيها، ويدفعون بدلًا يتراوح بين 6 إلى 25 دولارًا أسبوعيًا، بحسب كمية الكهرباء التي يستهلكونها.
وبما أن أغلب الناس في سوريا يكسبون أقل من 100 دولار شهرياً، فإن هذا النوع من الاشتراكات قد يصبح عبئاً مالياً ضخماً، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يديرون المطاعم أو المخابز أو أي عمل تجاري يمكن أن يدمره الحر.
رغم أن المولدات الكهربائية أصبحت ظاهرة جديدة في دمشق، إلا أن الحر لم يعد كذلك، ولكنني ما زلت مندهشاً من طريقة تأقلم الناس معها. على سبيل المثال، يمكنك اليوم شراء أنواع مختلفة من المراوح التي تعمل بالبطاريات، ويمكنك العثور عليها في كل مكان في أحد شوارع وسط المدينة المعروف باسم سوق الكهرباء.
أخبرني أحد أصحاب المتاجر مؤخراً أن مبيعات المراوح الكهربائية تضاعفت منذ العام الماضي، حيث يحتاج كل منزل إلى مروحة خلال الحر الشديد. ويبلغ سعر المروحة الصغيرة الآن 500 ألف ليرة سورية (35 دولاراً)، ويمكنك الحصول على مروحة ذات جودة أفضل مقابل 60 دولاراً. تمتلك بعض الأسر الدمشقية الثرية الآن ألواحاً شمسية ولم تعد بحاجة إلى مراوح تعمل بالبطاريات أو مولدات، لكن تركيب لوحة شمسية واحدة يكلف ما لا يقل عن 2000 دولار، وهو ما لا تستطيع الغالبية العظمى من السوريين تحمله.
وهناك حل آخر يتمثل في تجارة الثلج. فنظراً لقطع التيار الكهربائي عن الثلاجات طوال اليوم، يشتري الناس الثلج لوضعه في الثلاجات والمجمدات، أو في صناديق للحفاظ على برودة المشروبات لبضع ساعات. وتباع الآن أكياس أو مكعبات الثلج في الشوارع وفي محلات البقالة. وقالت لي امرأة من ريف دمشق إنها تخرج في الصباح الباكر للبحث عن الثلج لأنه ينفد بسرعة. ويتراوح سعر الثلج بين 500 إلى 1500 ليرة سورية (30 سنتاً إلى دولار واحد) في اليوم. وقالت هذه المرأة إن بعض الناس لا يستطيعون شراء الثلج إلا في الأيام التي يتوقعون فيها قدوم ضيوف.
في بعض المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام السوري، تأتي الكهرباء من مصادر مختلفة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق بها، ففي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غرب سوريا تأتي الكهرباء عادة من شركات تركية، بالإضافة إلى بعض مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية.
لكن كما هو الحال في دمشق، أصبحت الكهرباء باهظة الثمن لدرجة أن مليوني شخص في شمال غرب سوريا لا يستطيعون دفع ثمن الكهرباء من الشركات الخاصة لأنهم يعيشون في مخيمات أو مستوطنات غير رسمية أخرى، ويعتمد معظمهم على المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
وفي شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على معظم المنطقة، تم تدمير البنية التحتية، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة والاعتماد على مولدات باهظة الثمن.
4 مساءا
عندما عدت إلى المنزل، كنت منهكًا من شدة الحر وصخب المولدات التي كانت في كل مكان. استحممت مرة أخرى بماء بارد، ثم حاولت قضاء بقية يومي في منزل أصبح أشبه بفرن كبير. فكرت في مدى حظي بوجود مروحة وبعض الماء البارد وبطارية لشحن هاتفي. فكرت في كل الناس في هذا البلد الذين لا يملكون كل هذه الأشياء، وفكرت في أولئك الذين يعانون ويكافحون في الحر، بما في ذلك كبار السن والمرضى والعمال اليوميين والباعة الجائلين وسائقي سيارات الأجرة وأولئك الذين يعيشون في الخيام.
9 مساءا
تحسنت الأمور بعد غروب الشمس، وفي المساء جلست على الشرفة لأستمتع ببعض الهواء النقي، وشاهدت الناس يغادرون منازلهم المحروقة إلى الحدائق والمتنزهات القريبة، والأطفال يلعبون في الشوارع، لكنني تساءلت بيني وبين نفسي: هل ستعود الحياة إلى طبيعتها في سوريا؟
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر